الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)
.فَصْلٌ: الْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ: .بَيَانُ صِفَةِ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ: (وَلَنَا) أَنَّ الْفَرْضِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ بَيْنَ أَهْلِ الدِّيَانَةِ، وَأَهْلُ الدِّيَانَةِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي مَوْضِعٍ، هُنَاكَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ، وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ مَا رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ الطَّائِيِّ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: أَتْعَبْتُ مَطِيَّتِي فَمَا مَرَرْتُ بِشَرَفٍ إلَّا عَلَوْتُهُ فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ: أَتْعَبْتُ رَاحِلَتِي وَأَجْهَدْتُ نَفْسِي، وَمَا تَرَكْتُ جَبَلًا مِنْ جِبَالِ طَيِّئٍ إلَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ وَقَفَ مَعَنَا هَذَا الْوُقُوفَ، وَصَلَّى مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ وَقَدْ كَانَ وَقَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِعَرَفَةَ سَاعَةً بِلَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ». فَقَدْ عَلَّقَ تَمَامَ الْحَجِّ بِهَذَا الْوُقُوفِ، وَالْوَاجِبُ هُوَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ التَّمَامُ بِوُجُودِهِ لَا الْفَرْضُ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِهِ أَصْلُ الْجَوَازِ لَا صِفَةُ التَّمَامِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَجُّ عَرَفَةُ، مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ» جَعَلَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ كُلَّ الْحَجِّ، وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلَّ الرُّكْنِ. وَكَذَا جَعَلَ مُدْرِكَ عَرَفَةَ مُدْرِكًا لِلْحَجِّ، وَلَوْ كَانَ الْوُقُوفُ بِمُزْدَلِفَةَ رُكْنًا لَمْ يَكُنْ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ كُلَّ الْحَجِّ بَلْ بَعْضَهُ، وَلَمْ يَكُنْ أَيْضًا مُدْرِكًا لِلْحَجِّ بِدُونِهِ، وَهَذَا خِلَافُ الْحَدِيثِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الرُّكْنُ هُوَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لَا غَيْرُ، إلَّا أَنَّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ عُرِفَ رُكْنًا بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلِأَنَّ تَرْكَ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ جَائِزٌ لِعُذْرٍ عَلَى مَا نُبَيِّنُ، وَلَوْ كَانَ فَرْضًا لَمَا جَازَ تَرْكُهُ أَصْلًا كَسَائِرِ الْفَرَائِضِ فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَسْقُطُ وُجُوبُهُ لِعُذْرٍ مِنْ ضَعْفٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ تَعَجَّلَ وَلَمْ يَقِفْ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِهَا: إنَّ الْمُرَادَ مِنْ الذِّكْرِ هُوَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَقِيلَ: هُوَ الدُّعَاءُ، وَفَرْضِيَّتُهَا لَا تَقْتَضِي فَرْضِيَّةَ الْوُقُوفِ، عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ لَا لِلْفَرْضِيَّةِ بَلْ الْفَرْضِيَّةُ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ زَائِدٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. .فَصْلٌ: ركنُ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ: .فَصْلٌ: مكانُ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ: وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «مُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْتَفِعُوا عَنْ الْمُحَسِّرِ» فَيُكْرَهُ النُّزُولُ فِيهِ، وَلَوْ، وَقَفَ بِهِ أَجْزَأَهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ وُقُوفُهُ خَلْفَ الْإِمَامِ عَلَى الْجَبَلِ الَّذِي يَقِفُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ، وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ قُزَحُ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، وَلِأَنَّهُ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْإِمَامِ فَيَكُونُ أَفْضَلَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. .فَصْلٌ: زمانُ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ: .فَصْلٌ: حكمُ فواتِ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ عن وقتهِ: .فَصْلٌ: رَمْيُ الْجِمَارِ: وَقَدْرِهَا، وَجِنْسِهَا، وَمَأْخَذِهَا، وَمِقْدَارِ مَا يُرْمَى كُلَّ يَوْمٍ عِنْدَ كُلِّ مَوْضِعٍ، وَكَيْفِيَّةِ الرَّمْيِ، وَمَا يُسَنُّ فِي ذَلِكَ، وَيُسْتَحَبُّ، وَمَا يُكْرَهُ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا تَأَخَّرَ عَنْ، وَقْتِهِ أَوْ فَاتَ عَنْ، وَقْتِهِ. .فِي بَيَانِ وُجُوبِ الرَّمْيِ: وَأَمَّا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ، وَقَالَ إنِّي ذَبَحْتُ ثُمَّ رَمَيْتُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارْمِ، وَلَا حَرَجَ»، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْعَمَلِ. وَأَمَّا فِعْلُهُ فَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى، وَأَفْعَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا لَمْ يَكُنْ بَيَانًا لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ حَوَائِجِ نَفْسِهِ، وَلَا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ لِوُرُودِ النُّصُوصِ بِوُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَالِاتِّبَاعِ لَهُ، وَلُزُومِ طَاعَتِهِ، وَحُرْمَةِ مُخَالَفَتِهِ فَكَانَتْ أَفْعَالُهُ فِيمَا قُلْنَا مَحْمُولَةً عَلَى الْوُجُوبِ لَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ لِاحْتِمَالِ الْخُصُوصِ كَمَا فِي بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ نَحْوِ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَبَعْضِ الْمُبَاحَاتِ، وَهُوَ حِلُّ تِسْعِ نِسْوَةٍ أَوْ زِيَادَةٍ عَلَيْهَا فَاعْتِقَادُ الْوُجُوبِ مِنْهَا عَيْنًا يُؤَدِّي إلَى اعْتِقَادِ غَيْرِ الْوَاجِبِ، وَاجِبًا فِي حَقِّهِ، وَغَيْرِ الْمُبَاحِ مُبَاحًا فِي حَقِّهِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، فَأَمَّا الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ عَمَلًا مَعَ الِاعْتِقَادِ مُبْهِمًا أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فَهُوَ حَقٌّ مِمَّا لَا ضَرَرَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ، وَاجِبًا يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِفِعْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ، وَاجِبًا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ احْتِرَازًا عَنْ الضَّرَرِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَإِنَّهُ، وَاجِبٌ عَقْلًا، وَشَرْعًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. .فَصْلٌ: تَفْسِيرُ رَمْيِ الْجِمَارِ: .فَصْلٌ: وَقْتُ الرَّمْيِ: وَرُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْطَحُ أَفْخَاذَ أُغَيْلِمَةِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ لَا تَرْمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ حَتَّى تَكُونُوا مُصْبِحِينَ». فَإِنْ قِيلَ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لَا تَرْمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَهَذَا حُجَّةُ سُفْيَانَ فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ تَوْفِيقًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَبِهِ نَقُولُ إنَّ الْمُسْتَحَبَّ ذَلِكَ. وَأَمَّا آخِرُهُ فَآخِرُ النَّهَارِ كَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ يَوْمَ النَّحْرِ يَمْتَدُّ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَمْتَدُّ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ يَفُوتُ الْوَقْتُ، وَيَكُونُ فِيمَا بَعْدَهُ قَضَاءٌ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ أَوْقَاتَ الْعِبَادَةِ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالتَّوْقِيفِ، وَالتَّوْقِيفُ وَرَدَ بِالرَّمْيِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ فَلَا يَكُونُ مَا بَعْدَهُ وَقْتًا لَهُ أَدَاءً كَمَا فِي سَائِرِ أَيَّامِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ وَقْتَهُ فِيهَا بَعْدَ الزَّوَالِ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الزَّوَالِ وَقْتًا لَهُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الِاعْتِبَارُ بِسَائِرِ الْأَيَّامِ، وَهُوَ أَنَّ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَقْتَ الرَّمْيِ فَكَذَا فِي هَذَا الْيَوْمِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ إنَّمَا يُفَارِقُ سَائِرَ الْأَيَّامِ فِي ابْتِدَاءِ الرَّمْيِ لَا فِي انْتِهَائِهِ فَكَانَ مِثْلَ سَائِرِ الْأَيَّامِ فِي الِانْتِهَاءِ فَكَانَ آخِرُهُ وَقْتَ الرَّمْيِ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ، فَإِنْ لَمْ يَرْمِ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَيَرْمِي قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي أَجْزَأَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا، وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ، فِي قَوْلٍ: إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ فَاتَ الْوَقْتُ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَفِي قَوْلٍ: لَا يَفُوتُ إلَّا فِي آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَذِنَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا بِاللَّيْلِ»، وَلَا يُقَالُ إنَّهُ رَخَّصَ لَهُمْ ذَلِكَ لِعُذْرٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ مَا كَانَ لَهُمْ عُذْرٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَسْتَنِيبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَيَأْتِي بِالنَّهَارِ فَيَرْمِي فَثَبَتَ أَنَّ الْإِبَاحَةَ كَانَتْ لِعُذْرٍ فَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا فَلَا يَجِبُ الدَّمُ، فَإِنْ أَخَّرَ الرَّمْيَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي رَمَى، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِلتَّأْخِيرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الرَّمْيَ مُؤَقَّتٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِمُؤَقَّتٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ أَنَّهُ مُؤَقَّتٌ بِهَا وُجُوبًا عِنْدَهُ حَتَّى يَجِبَ الدَّمُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْهَا، وَعِنْدَهُمْ لَيْسَ بِمُؤَقَّتٍ أَصْلًا فَلَا يَجِبُ بِالتَّأْخِيرِ شَيْءٌ، وَالْحُجَجُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ تَعَلُّقِهِمَا بِالْخَبَرِ، وَالْمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا فِي الطَّوَافِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. .فَصْلٌ: وَقْتُ الرَّمْيِ مِنْ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ بَعْدَ الزَّوَالِ، فَإِنْ رَمَى قَبْلَهُ جَازَ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ قَبْلَ الزَّوَالِ وَقْتُ الرَّمْيِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ فَكَذَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ أَيَّامُ النَّحْرِ، وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَرَمَى فِي بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ بَعْدَ الزَّوَالِ»، وَهَذَا بَابٌ لَا يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِالتَّوْقِيفِ، فَإِنْ أَخَّرَ الرَّمْيَ فِيهِمَا إلَى اللَّيْلِ فَرَمَى قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ وَقْتُ الرَّمْيِ فِي أَيَّامِ الرَّمْيِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ فَإِذَا رَمَى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ الزَّوَالِ فَأَرَادَ أَنْ يَنْفِرَ مِنْ مِنًى إلَى مَكَّةَ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَلَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ} أَيْ مَنْ نَفَرَ إلَى مَكَّةَ بَعْدَمَا رَمَى يَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَتَرَكَ الرَّمْيَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي تَعْجِيلِهِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَتَعَجَّلَ بَلْ يَتَأَخَّرَ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ مِنْهَا فَيَسْتَوْفِي الرَّمْيَ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا ثُمَّ يَنْفِرُ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ مِنْ النَّفْرِ الثَّانِي، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ}، وَفِي ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ إشْكَالٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ذَكَرَ قَوْله تَعَالَى: {فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ} فِي الْمُتَعَجِّلِ، وَالْمُتَأَخِّرِ جَمِيعًا، وَهَذَا إنْ كَانَ يَسْتَقِيمُ فِي حَقِّ الْمُتَعَجِّلِ؛ لِأَنَّهُ يَتَرَخَّصُ لَا يَسْتَقِيمُ فِي حَقِّ الْمُتَأَخِّرِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِالْعَزِيمَةِ وَالْأَفْضَلِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى فِي الْمُتَأَخِّرِ: {فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى} قَيَّدَهُ بِالتَّقْوَى، وَهَذَا التَّقْيِيدُ بِالْمُتَعَجِّلِ أَلْيَقُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِالرُّخْصَةِ، وَلَمْ يَذْكَرْ فِيهِ هَذَا التَّقْيِيدَ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْإِشْكَالِ الْأَوَّلِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ غُفِرَ لَهُ، وَمَنْ تَأَخَّرَ غُفِرَ لَهُ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ} رَجَعَ مَغْفُورًا لَهُ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {لِمَنْ اتَّقَى} فَهُوَ بَيَانُ أَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ وَعْدِ الْمَغْفِرَةِ لِلْمُتَعَجِّلِ وَالْمُتَأَخِّرِ بِشَرْطِ التَّقْوَى، ثُمَّ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مَنْ صَرَفَ التَّقْوَى إلَى الِاتِّقَاءِ عَنْ قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ أَيْ لِمَنْ اتَّقَى قَتْلَ الصَّيْدِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، وَصَرَفَ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أَيْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَسْتَحِلُّوا قَتْلَ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَرَفَ التَّقْوَى إلَى الِاتِّقَاءِ عَنْ الْمَعَاصِي كُلِّهَا فِي الْحَجِّ، وَفِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّقْوَى عَمَّا حُظِرَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْ الرَّفَثِ، وَالْفُسُوقِ، وَالْجِدَالِ، وَغَيْرِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ النَّفْرُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ لَمْ يَجُزْ لَهُ النَّفْرُ. وَأَمَّا وَقْتُ الرَّمْيِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ مِنْ أَيَّامِ الرَّمْيِ فَالْوَقْتُ الْمُسْتَحَبُّ لَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَلَوْ رَمَى قَبْلَ الزَّوَالِ يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ، وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَرَمَى فِي بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ بَعْدَ الزَّوَالِ»، وَأَوْقَاتُ الْمَنَاسِكِ لَا تُعْرَفُ قِيَاسًا فَدَلَّ أَنَّ وَقْتَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَلِأَنَّ هَذَا يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ الرَّمْيِ فَكَانَ وَقْتُ الرَّمْيِ فِيهِ بَعْدَ الزَّوَالِ كَالْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ إذَا اُفْتُتِحَ النَّهَارُ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ جَازَ الرَّمْيُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَالَهُ سَمَاعًا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ هُوَ بَابٌ لَا يُدْرَكُ بِالرَّأْيِ، وَالِاجْتِهَادِ فَصَارَ الْيَوْمُ الْأَخِيرُ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مَخْصُوصًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَوْ يُحْمَلُ فِعْلُهُ فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ قَبْلَ الرَّمْيِ، وَيَتْرُكَ الرَّمْيَ فِي هَذَا الْيَوْمِ رَأْسًا فَإِذَا جَازَ لَهُ تَرْكُ الرَّمْيِ أَصْلًا فَلَأَنْ يَجُوزَ لَهُ الرَّمْيُ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. .فَصْلٌ: مَكَانُ الرَّمْيِ: .فَصْلٌ: عَدَدِ الْجِمَارِ وَقَدْرِهَا، وَجِنْسِهَا: .فَصْلٌ: بَيَانُ حُكْمِهِ: وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا يَجِبُ فِي جَمِيعِهِ دَمٌ يَجِبُ فِي أَقَلِّهِ صَدَقَةٌ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَاهُنَا لَوْ تَرَكَ جَمِيعَ الرَّمْيِ إلَى الْغَدِ كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِذَا تَرَكَ أَقَلَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ دَمًا لِمَا نَذْكُرُ، وَإِنْ تَرَكَ الْأَكْثَرَ مِنْهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ فِي جَمِيعِهِ دَمٌ عِنْدَهُ فَكَذَا فِي أَكْثَرِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ فِي جَمِيعِهِ دَمٌ فَكَذَا فِي أَكْثَرِهِ، فَإِنْ تَرَكَ رَمْيَ أَحَدِ الْجِمَارِ الثَّلَاثِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ أَقَلَّ، وَظِيفَةِ الْيَوْمِ، وَهُوَ رَمْيُ سَبْعِ حَصَيَاتٍ فَكَانَ صَدَقَةً إلَى أَنْ يَصِيرَ الْمَتْرُوكُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْوَظِيفَةِ؛ لِأَنَّ وَظِيفَةَ كُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثُ جِمَارٍ فَكَانَ رَمْيُ جَمْرَةٍ مِنْهَا أَقَلَّهَا. وَلَوْ تَرَكَ الْكُلَّ، وَهُوَ الْجِمَارُ الثَّلَاثُ فِيهِ لَلَزِمَهُ عِنْدَهُ دَمٌ فَيَجِبُ فِي أَقَلِّهَا الصَّدَقَةُ بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ إذَا تَرَكَ الْجَمْرَةَ فِيهِ، وَهُوَ سَبْعُ حَصَيَاتٍ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ دَمٌ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ سَبْعَ حَصَيَاتٍ كُلُّ، وَظِيفَةِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فَكَانَ تَرْكُهُ بِمَنْزِلَةِ تَرْكِ كُلِّ، وَظِيفَةِ الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَذَلِكَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ حَصَاةً، وَتَرْكُ ثَلَاثِ حَصَيَاتٍ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ تَرْكِ جَمْرَةٍ تَامَّةٍ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَهِيَ سَبْعُ حَصَيَاتٍ، فَإِنْ تَرَكَ الرَّمْيَ كُلَّهُ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ إلَى آخِرِ أَيَّامِ الرَّمْيِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ فَإِنَّهُ يَرْمِيهَا فِيهِ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا دَمَ عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الرَّمْيَ مُؤَقَّتٌ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِمُؤَقَّتٍ ثُمَّ عَلَى قَوْلِهِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا دَمٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ تَرْكُ وَظِيفَةِ يَوْمٍ وَاحِدٍ بِانْفِرَادِهِ يُوجِبُ دَمًا وَاحِدًا، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِتَأْخِيرِ الْكُلِّ إلَّا دَمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْجِنَايَةِ وَاحِدٌ، حَظْرُهَا إحْرَامٌ وَاحِدٌ مِنْ جِهَةٍ غَيْرِ مُتَقَوِّمَةٍ فَيَكْفِيهَا دَمٌ وَاحِدٌ كَمَا لَوْ حَلَقَ الْمُحْرِمُ رُبْعَ رَأْسِهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ حَلَقَ جَمِيعَ رَأْسِهِ يَلْزَمُهُ دَمٌ وَاحِدٌ أَيْضًا. وَكَذَا لَوْ طَيَّبَ عُضْوًا وَاحِدًا أَوْ طَيَّبَ أَعْضَاءَهُ كُلَّهَا أَوْ لَبِسَ ثَوْبًا وَاحِدًا أَوْ لَبِسَ ثِيَابًا كَثِيرَةً لَا يَلْزَمُهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَّا دَمٌ وَاحِدٌ كَذَا هَاهُنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ صَيُودًا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ لِكُلِّ صَيْدٍ جَزَاؤُهُ عَلَى حِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْجِهَةَ هُنَاكَ مُتَقَوِّمَةٌ، فَإِنْ تَرَكَ الْكُلَّ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ الرَّمْيِ يَسْقُطُ عَنْهُ الرَّمْيُ، وَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا. أَمَّا سُقُوطُ الرَّمْيِ فَلِأَنَّ الرَّمْيَ عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، وَالْأَصْلُ فِي الْعِبَادَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ إذَا فَاتَ وَقْتُهَا أَنْ تَسْقُطَ، وَإِنَّمَا الْقَضَاءُ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ يَجِبُ بِدَلِيلٍ مُبْتَدَأٍ، ثُمَّ إنَّمَا وَجَبَ هُنَاكَ لِمَعْنًى لَا يُوجَدُ هَاهُنَا، وَهُوَ أَنَّ الْقَضَاءَ صَرَفَ مَا لَهُ إلَى مَا عَلَيْهِ فَيَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ جِنْسُ الْفَائِتِ مَشْرُوعًا فِي وَقْتِ الْقَضَاءِ فَيُمْكِنَهُ صَرْفُ مَا لَهُ إلَى مَا عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الرَّمْيِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ رَمْيٌ مَشْرُوعٌ عَلَى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ لِيَصْرِفَ مَا لَهُ إلَى مَا عَلَيْهِ فَتَعَذَّرَ الْقَضَاءُ فَسَقَطَ ضَرُورَةً، وَنَظِيرُ هَذَا إذَا فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَضَاهَا فِي غَيْرِهَا أَنَّهُ يَقْضِيهَا بِلَا تَكْبِيرٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وَقْتِ الْقَضَاءِ تَكْبِيرٌ مَشْرُوعٌ لِيَصْرِفَ مَا لَهُ إلَى مَا عَلَيْهِ فَسَقَطَ أَصْلًا كَذَا هَذَا. وَأَمَّا وُجُوبُ الدَّمِ فَلِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ عَنْ وَقْتِهِ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ رَمْيَ كُلِّ يَوْمٍ مُؤَقَّتٌ، وَعِنْدَهُمَا إنْ لَمْ يَكُنْ مُؤَقَّتًا فَهُوَ مُؤَقَّتٌ بِأَيَّامِ الرَّمْيِ فَقَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ عَنْ وَقْتِهِ فَإِنْ تَرَكَ التَّرْتِيبَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَبَدَأَ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَرَمَاهَا ثُمَّ بِالْوُسْطَى ثُمَّ بِاَلَّتِي تَلِي الْمَسْجِدَ ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي يَوْمِهِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُعِيدَ الْوُسْطَى وَجَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ أَجْزَأَهُ، وَلَا يُعِيدُ الْجَمْرَةَ الْأُولَى، أَمَّا إعَادَةُ الْوُسْطَى وَجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَلِتَرْكِهِ التَّرْتِيبَ، فَإِنَّهُ مَسْنُونٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَتَّبَ فَإِذَا تَرَكَ الْمَسْنُونَ تُسْتَحَبُّ الْإِعَادَةُ، وَلَا يُعِيدُ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ إذَا أَعَادَ الْوُسْطَى وَالْعَقَبَةَ صَارَتْ هِيَ الْأُولَى، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ الْوُسْطَى وَالْعَقَبَةَ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الرَّمَيَاتِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ بِدَلِيلِ أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ يُرْمَى فِيهِ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ، وَلَا يُرْمَى غَيْرُهَا مِنْ الْجِمَارِ، وَفِيمَا جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ الْبَعْضُ مِنْ الْبَعْضِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّرْتِيبُ كَالْوُضُوءِ، بِخِلَافِ تَرْتِيبِ السَّعْيِ عَلَى الطَّوَافِ أَنَّهُ شَرْطٌ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ عَنْ الطَّوَافِ بِحَالٍ، فَإِنْ رَمَى كُلَّ جَمْرَةٍ بِثَلَاثِ حَصَيَاتٍ ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ فَيَرْمِي الْأُولَى بِأَرْبَعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى يُتِمَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَمْيَ تِلْكَ الْجَمْرَةِ غَيْرُ مُرَتَّبٍ عَلَى غَيْرِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ ذَلِكَ بِأَرْبَعِ حَصَيَاتٍ ثُمَّ يُعِيدُ الْوُسْطَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ؛ لِأَنَّ قَدْرَ مَا فَعَلَ حَصَلَ قَبْلَ الْأُولَى فَيُعِيدُ مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ الْكُلَّ يُعِيدُ فَإِذَا رَمَى الثَّلَاثَ أَوْلَى أَنْ يُعِيدَ، وَكَذَلِكَ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ رَمَى كُلَّ وَاحِدَةٍ بِأَرْبَعِ حَصَيَاتٍ فَإِنَّهُ يَرْمِي كُلَّ وَاحِدَةٍ بِثَلَاثٍ، ثَلَاثٌ لِأَنَّ الْأَرْبَعَ أَكْثَرُ الرَّمْيِ فَيَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فَصَارَ كَأَنَّهُ رَتَّبَ الثَّانِيَ عَلَى رَمْيٍ كَامِلٍ. وَكَذَا الثَّالِثُ، وَإِنْ اسْتَقْبَلَ رَمْيَهَا فَهُوَ أَفْضَلُ لِيَكُونَ الرَّمْيُ فِي الثَّلَاثِ الْبَوَاقِي عَلَى الْوَجْهِ الْمَسْنُونِ، وَهُوَ التَّرْتِيبُ، وَلَوْ نَقَصَ حَصَاةً لَا يَدْرِي مِنْ أَيَّتِهِنَّ نَقَصَهَا أَعَادَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ حَصَاةً إسْقَاطًا لِلْوَاجِبِ عَنْ نَفْسِهِ بِيَقِينٍ كَمَنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لَا يَدْرِي أَيَّتَهَا هِيَ: أَنَّهُ يُعِيدُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ لِيَخْرُجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ كَذَا هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
|